فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

لا شك أن اسم الولد واقع على ولد الصلب على سبيل الحقيقة، ولا شك أنه مستعمل في ولد الابن قال تعالى: {يا بني آدم} [الأعراف: 26] وقال للذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام: {يا بَنِى إسراءيل} [البقرة: 40] إلا أن البحث في أن لفظ الولد يقع على ولد الابن مجازًا أو حقيقة.
فإن قلنا: إنه مجاز فنقول: ثبت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعة واحدة في حقيقته وفي مجازه معا، فحينئذ يمتنع أن يريد الله بقوله: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم} ولد الصلب وولد الابن معا.
واعلم أن الطريق في دفع هذا الإشكال أن يقال: إنا لا نستفيد حكم ولد الابن من هذه الآية بل من السنة ومن القياس، وأما أن أردنا أن نستفيده من هذه الآية فنقول: الولد وولد الابن ما صارا مرادين من هذه الآية معا، وذلك لأن أولاد الابن لا يستحقون الميراث إلا في إحدى حالتين، إما عند عدم ولد الصلب رأسا، وإما عند ما لا يأخذ ولد الصلب كل الميراث، فحينئذ يقتسمون الباقي، وأما أن يستحق ولد الابن مع ولد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه أولاد الصلب بعضهم مع بعض فليس الأمر كذلك، وعلى هذا لا يلزم من دلالة هذه الآية على الولد وعلى ولد الابن أن يكون قد أريد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا، لأنه حين أريد به ولد الصلب ما أريد به ولد الابن، وحين أريد به ولد الابن ما أريد به ولد الصلب، فالحاصل أن هذه الآية تارة تكون خطابا مع ولد الصلب وأخرى مع ولد الابن، وفي كل واحدة من هاتين الحالتين يكون المراد به شيئا واحدًا، أما إذا قلنا: إن وقوع اسم الولد على ولد الصلب وعلى ولد الابن يكون حقيقة، فإن جعلنا اللفظ مشتركا بينهما عاد الإشكال، لأنه ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك لافادة معنييه معا، بل الواجب أن يجعله متواطئا فيهما كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس.
والذي يدل على صحة ذلك قوله تعالى: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم} [النساء: 23] وأجمعوا أنه يدخل فيه ابن الصلب وأولاد الابن، فعلمنا أن لفظ الابن متواطئ بالنسبة إلى ولد الصلب وولد الابن، وعلى هذا التقدير يزول الاشكال.
واعلم أن هذا البحث الذي ذكرناه في أن الابن هل يتناول أولاد الابن قائم في أن لفظ الأب والأم هل يتناول الأجداد والجدات؟ ولا شك أن ذلك واقع بدليل قوله تعالى: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [البقرة: 133] والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة، فإن الصحابة اتفقوا على أنه ليس للجد حكم مذكور في القرآن، ولو كان اسم الأب يتناول الجد على سبيل الحقيقة لما صح ذلك والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قال ابن المنذر: لما قال تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} فكان الذي يجب على ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد، المؤمِن منهم والكافر؛ فلما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يرث المسلم الكافر».
عُلِم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض، فلا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ على ظاهر الحديث.
قلت: ولما قال تعالى: {في أَوْلاَدِكُمْ} دخل فيهم الأسير في أيدي الكفار؛ فإنه يرث ما دام تُعلم حياته على الإسلام.
وبه قال كافّة أهل العلم، إلا النخعِيّ فإنه قال: لا يرث الأسير.
فأما إذا لم تعلم حياته فحكمه حكم المفقود.
ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبيّ صلى الله عليه وسلم لقوله: «لا نورث ما تركنا صدقةٌ» وسيأتي بيانه في مريم إن شاء الله تعالى.
وكذلك لم يدخل القاتل عمدًا لأبيه أو جدّه أو أخيه أو عمِّه بالسنة وإجماع الأُمة، وأنه لا يرِث مِن مال من قتله ولا من ديته شيئًا؛ على ما تقدّم بيانه في البقرة.
فإن قتله خطأ فلا ميراث له من الدّية، ويرث من المال في قول مالك، ولا يرث في قول الشافعيّ وأحمد وسفيان وأصحابِ الرأي، من المال ولا من الدّية شيئًا؛ حسبما تقدّم بيانه في البقرة.
وقول مالك أصح، وبه قال إسحاق وأبو ثَوْر.
وهو قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومجاهد والزهريّ والأُوزاعي وابن المنذر؛ لأن ميراث من ورّثه الله تعالى في كتابه ثابت لا يستثنى منه إلا بسنة أو إجماع.
وكل مختلَف فيه فمردود إلى ظاهر الآيات التي فيها المواريث. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن عموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} زعموا أنه مخصوص في صور أربعة: أحدها: أن الحر والعبد لا يتوارثان.
وثانيها: أن القاتل على سبيل العمد لا يرث.
وثالثها: أنه لا يتوارث أهل ملتين، وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول وبلغ حد المستفيض، ويتفرع عليه فرعان:
الفرع الأول: اتفقوا على أن الكافر لا يرث من المسلم، أما المسلم فهل يرث من الكافر؟ ذهب الأكثرون إلى أنه أيضًا لا يرث، وقال بعضهم: إنه يرث قال الشعبي: قضى معاوية بذلك وكتب به إلى زياد، فأرسل ذلك زياد إلى شريح القاضي وأمره به، وكان شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث، فلما أمره زياد بذلك كان يقضي به ويقول: هكذا قضى أمير المؤمنين.
حجة الأولين عموم قوله عليه السلام: «لا يتوارث أهل ملتين» وحجة القول الثاني: ما روي أن معاذا كان باليمن فذكروا له أن يهوديا مات وترك أخا مسلما فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الإسلام يزيد ولا ينقص» ثم أكدوا ذلك بأن قالوا إن ظاهر قوله: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين} يقتضي توريث الكافر من المسلم، والمسلم من الكافر، إلا أنا خصصناه بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يتوارث أهل ملتين» لأن هذا الخبر أخص من تلك الآية، والخاص مقدم على العام فكذا هاهنا قوله: الإسلام يزيد ولا ينقص أخص من قوله: «لا يتوارث أهل ملتين» فوجب تقديمه عليه، بل هذا التخصيص أولى، لأن ظاهر هذا الخبر متأكد بعموم الآية، والخبر الأول ليس كذلك، وأقصى ما قيل في جوابه: أن قوله: الإسلام يزيد ولا ينقص ليس نصا في واقعة الميراث، فوجب حمله على سائر الأحوال.
الفرع الثاني: المسلم إذا ارتد ثم مات أو قتل، فالمال الذي اكتسبه في زمان الردة أجمعوا على أنه لا يورث، بل يكون لبيت المال، أما المال الذي اكتسبه حال كونه مسلما ففيه قولان: قال الشافعي: لا يورث بل يكون لبيت المال، وقال أبو حنيفة: يرثه ورثته من المسلمين، حجة الشافعي أنا أجمعنا على ترجيح قوله عليه السلام: «لا يتوارث أهل ملتين» على عموم قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} والمرتد وورثته من المسلمين أهل ملتين، فوجب أن لا يحصل التوارث.
فإن قيل: لا يجوز أن يقال: إن المرتد زال ملكه في آخر الإسلام وانتقل إلى الوارث، وعلى هذا التقدير فالمسلم إنما ورث عن المسلم لا عن الكافر.
قلنا: لو ورث المسلم من المرتد لكان إما أن يرثه حال حياة المرتد أو بعد مماته، والأول باطل، ولا يحل له أن يتصرف في تلك الأموال لقوله تعالى: {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المؤمنون: 6] وهو بالاجماع باطل.
والثاني: باطل لأن المرتد عند مماته كافر فيفضي إلى حصول التوارث بين أهل ملتين، وهو خلاف الخبر.
ولا يبقى هاهنا إلا أن يقال: إنه يرثه بعد موته مستندًا إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه، إلا أن القول بالاستناد باطل، لأنه لما لم يكن الملك حاصلا حال حياة المرتد، فلو حصل بعد موته على وجه صار حاصلا في زمن حياته لزم إيقاع التصرف في الزمان الماضي، وذلك باطل في بداهة العقول، وإن فسر الاستناد بالتبيين عاد الكلام إلى أن الوارث ورثه من المرتد حال حياة المرتد، وقد أبطلناه، والله أعلم.
الموضع الرابع: من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون، والشيعة خالفوا فيه، روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه، احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد، ثم إن الشيعة قالوا: بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أنه غير جائز ههنا، وبيانه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] وقوله تعالى: {وَوَرِثَ سليمان دَاوُودُ} [النمل: 16] قالوا: ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين لأن ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة. بل يكون كسبًا جديدًا مبتدأ، إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة، وثانيها: أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين، وأما أبو بكر فإنه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة ألبتة، لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة، وثالثها: يحتمل أن قوله: «ما تركناه صدقة» صلة لقوله: «لا نورث» والتقدير: أن الشيء الذي تركناه صدقة، فذلك الشيء لا يورث.
فإن قيل: فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك.
قلنا: بل تبقى الخاصية لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم.
والجواب: أن فاطمة عليها السلام رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة، وانعقد الإجماع على صحة ما ذهب إليه أبو بكر فسقط هذا السؤال، والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

واستثنى من العموم الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم بناءًا على القول بدخوله صلى الله عليه وسلم في العمومات الواردة على لسانه عليه الصلاة والسلام المتناولة له لغة، والدليل على الاستثناء قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وأخذ الشيعة بالعموم وعدم الاستثناء وطعنوا بذلك على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حيث لم يورث الزهراء رضي الله تعالى عنها من تركة أبيها صلى الله عليه وسلم حتى قالت له بزعمهم: يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي أي إنصاف هذا، وقالوا: إن الخبر لم يروه غيره وبتسليم أنه رواه غيره أيضًا فهو غير متواتر بل آحاد، ولا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصًا لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] فقال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم بقول امرأة.
فلو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يرده ولم يجعل كونه خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعًا من قبوله، وأيضًا العام وهو الكتاب قطعي، والخاص وهو خبر الآحاد ظني فيلزم ترك القطعي بالظني.
وقالوا أيضًا: إن مما يدل على كذب الخبر قوله تعالى: {وَوَرِثَ سليمان دَاوُودُ} [النحل: 16] وقوله سبحانه حكاية عن زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5، 6] فإن ذلك صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون.
والجواب أن هذا الخبر قد رواه أيضًا حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وقد أخرج البخاري عن مالك بن أوس بن الحدثان أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال بمحضر من الصحابة فيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالوا: اللهم نعم، ثم أقبل على عليّ والعباس فقال: أنشدكما بالله تعالى هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا: اللهم نعم، فالقول بأن الخبر لم يروه إلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يلتفت إليه، وفي كتب الشيعة ما يؤيده، فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري في الكافي عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا وإنما ورثوا أحاديث فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر» وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعًا باعتراف الشيعة فيعلم أن الأنبياء لا يورثون غير العلم والأحاديث.